الأدب الإسلامي

 

 

عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(8)

 

بقلم : أديب العربية الكبير معالي  الدكتور عبد العزيز عبد اللّه الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

 

 

 

 

        ومن الأمور التي برزت في حياة عمر حبه للأخبار عن الأمم السالفة، خاصة قبائل العرب، ومواقعهم في الجاهلية، وكان ينتهز فرصة مجيء الوفود بالمناسبات المختلفة، فيستقصي منهم عن أخبار قبائلهم، وأيامهم، وكان إلى ذلك يهتم بالشعر، فيسأل عن شعرائهم، ويقارن بينهم، ويسأل عن أجودهم، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ كان يرسل إلى عماله، ويكلفهم بالسؤال، وإرسال الإجابة أحياناً.

     وكثيراً ما يسأل عمرو بن معدي كرب، ولعله معجب بما يروى عنه، ويرى أنّ له تجربة في الحياة الجاهلية، تؤهله أن يقص ما يمتع، وفي إحدى المرات يسأله عمر، فيأتي بالحكمة، والقصة كما يلي:

     «سأل عمر بن الخطاب عمرو بن معدي كرب عن الحرب، فقال:

     مُرَّة المذاق، إذا شمرت عن ساق، من صبر فيها عُرف، ومن ضعف عنها تَلِف»(1).

     وينتهز فرصة مجيء وفد غطفان، فيدخل معهم في جدل أدبي ممتع، ويبدو أن سمعته في هذا المجال قد سبقته، ولهذا فقد بقوا بالمكان الأدنى عند بحثه في الأدب، فلم ير قوا إلى مركزه فيه، والقصة كما يلي:

     «قال ربعي بن حراش:

     أتينا عمر في نفر من غطفان فذكروا الشعر.

     فقال عمر: أي شعرائكم أشعر؟

     قلنا: أنت أعلم، يا أمير المؤمنين.

     قال: من الذي يقول:

حلَفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً

وليس وراء الله للمرء مذهب

     قلنا: النابغة.

     قال: ثم عاد، فقال قوله الأول، ثم قال: من يقول:

أتيتك عاريــاً خلقاً ثيـابي

على وجل تظن بي الظنون

وألفيت الأمانـــة لم تخنها

كذلك كان نوح لا يخـون

     قلنا: النابغة.

     فعاد، فقال مثل قوله الأول.

     فقالوا: أنت أعلم، يا أمير المؤمنين.

     فقال: من يقول:

إلا سليمان إذ قــال الإلــه لــه

قم في البرية فاحددها عن الفند

     قلنا: النابغة.

     قال: هذا أشعر شعرائكم»(2).

     وينتهز فـرصـة مجيء رجل تظهر منـه قـوة خارقة، وعمر قوي البدن، ولعله يعجبه القوي مثله، فيسأله عما مر به في حياته مما احتاج فيه إلى قوته، ويلحففي الأسئلة، ويأتي بها متتالية، والقصة تجري وقائعها كما يلي:

     «قدم أعرابي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستحمله، فقال:

     خذ بعيراً من إبل الصدقة.

     فنظر إلى بعير منها، فتعلق بذنبه، ونازعه البعير، فاقتلع ذنبه.

     فقال عمر: هل رأيت أشد منك.

     قال: نعم، خرجت بامرأة من أهلي، أريد بها زوجها، فنزلت منزلاً، أهله خلوف، فدنوت من الحوض، فإذا رجل قد أقبل، ومعه ذود له، فصرف ذوده إلى الحوض، وأقبل نحو المرأة؛ ولا أدري ما يريد، فلما قرب منها ساورها؛ فنادتني، فلما انتهيت إليه كان قد خالطها، فجئت أدفعه، فأخذ رأسي، فوضعه بين ذراعه وجنبه، فما استطعت أن أتحرك، حتى قضى ما أراد، ثم قام واضطجع، وقالت:

     نعم الفحل هذا، لو كانت لنا منه سخلة.

     فأمهلتُ حتى امتلأ نوماً، ثم قمت إليه، فضربت ساقه بالسيف، فأطننتها، فوثب، فهربت، وغلبه الدم، فرماني بساقه، فأخطأني، وأصاب بعيري، فقتله.

     فقال عمر: فما فعلت المرأة؟

     فقال: هذا حديث الرجل.

     فكرر عليه مراراً، كل هذا وهو يقول: هذا حديث الرجل»(3).

     لقد نسي عمر رضي الله عنه أن الذي أهمه في أول الأمر القوة، فأصبح يلح ليعرف حكم الرجل على المرأة، وهي التي استحسنت فعل الرجل، وأملت أن تحمل منه، ولعل الرجل قتلها، أو تراهما أخفيا عن زوجها الأمر، أو تراهما أعلماه، هذا ما شغل ذهن عمر؛ وصحة القصة، أو عدم صحتها، يتوقف على معرفة هل في الجمل مقتل بحيث تمضي منه ضربة بالرجل المقطوعة كهذه الرجل التي أرسلت إليه بقوة.

     وعمر عندما يسأل الوفود القادمة إليه عن حوادث شهدتها في الجاهلية، فهو لا يريد التسلية، ولا يرمي إلى التفكه، وإنمايريد أن يزيد معلوماته، وينمي ثقافته، بما يستخرجه من معلومات، ويستنبطه من أسباب، تكمن وراء مظاهر الأمور، ومن تعليل قد لا يعرفه إلا أهله، والمشاركون فيه، وفي هذا فائدة له لإدارة عمله في المستقبل، وخاصة فيما يختص بالحروب، وأنفس الناس وطبائعهم، ولهذا كان يركز على الحروب، وما يبدو فيها من نجاح وانتصار، لم يكن متوقعاً، فهو يريد أن يعرف ما كان وراء النصر غير المتوقع.

     ومن القصص التي تجري هذا المجرى القصة الآتية:

     «قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض بني عبس:

     كم كنتم في يوم كذا؟

     قال: كنا مئة، لم نكثر، فنتواكل ونفشل، ولم نقل، فنذل.

     قال: فبم كنتم تظهرون على أعدائكم، ولستم بأكثر منهم؟

     قال: كنا نصبر بعد الناس هنيهة»(4).

     يتبين من أسئلة عمر رضي الله عنه أنه يريد أن يعرف الأسباب وراء انتصار عبس رغم قلتهم؛ وقد جاء الجواب شافياً، ومعقولاً، واحتوى على عناصر سوف تنفع عمر في توجيه قواد جيوش المسلمين؛ فليس النجاح بكثرة العدد، لما فيه من التواكل، وكثرة العدد عند غير المجرب قد تغري بالاعتماد عليها، والاغترار بها، فتكون مدعاة للخذلان؛ وهناك عنصر مهم آخر، وهو الصبر في المعارك، ومع الصبر يأتي النصر، والشجاعة التي تجعل بطلاً يغلب آخر هي في المقدرة على الصبر، وإطالة المقاومة، وتمديد الأمل في أن يمل الخصم، وييأس العدو، فيسلِّم أمره، ويلقي سلاحه، أو يلوذ بالفرار.

     والخبرة يبحث عنها عمر في مظانها، ويتلمسها عند أهلها، ويأخذ الحكمة أنى وجدها، وقد شك في يوم من الأيام في العتاق من الخيل، وتمييزها عن الهجن، فسأل خبيراً بها، فأعطاه كلمة فصل في هذا، والقصة كما يلي:

     «شك عمر رضي الله عنه في العتاق والهجن فدعا سليمان بن ربيعة الباهلي بطست فيه ماء، ثم قدمت الخيل فما ثَنَى سنبكه فشرب هجنه، وما شرب ولم يثن سنبكه عرَّفه؛ وذلك أن العتاق قود دون الهجن»(5).

     و ورد في نص آخر عن خبرة سليمان الباهلي في هذا الأمر، ما احتوى على تفصيل أكثر، هكذا:

     «قيل لسليمان بن ربيعة الباهلي:

     بِمَ تعرف الهجن من العتاق؟

     قال: بنظري إلى الأعناق.

     قيل: فبين لنا ذلك؟

     قال: فدعا بطُست من ماء، فوضعت على الأرض، ثم قدمت الخيل إليها، واحداً واحداً، فما ثنى سنبكه ثم شرب هجنه، وما شرب ولم يثن سنبكه جعله عتيقاً، وذلك لأن في أعناق الهجن قصرًا، فهي لا تنال الماء إلا على تلك الحال، حتى تثني سنابكها، وأعناق العتاق طوال، فهي تشرب، ولا تثني سنابكها»(6).

     وحبـه للشعر العفيف يجعل مجلسه عامراً به، وكأنه يتسقط فيــه الحكمة، ليقبل عليه الناس، ويتشربوا بما فيه من حسن الخلق، وفي إحدى جلساته يجرى الحديث هكذا:

     «كان الحطيئة وكعب عند عمر، فأنشد الحطيئة:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيـه

لا يذهب العرف بين الله والناس

     فقال كعب: هي والله في التوراة: لا يذهب العرف بين الله وبين خلقه»(7).

     في الجلسة التي جلس فيها عمر لوفد غطفان كان تركيز عمر على الأبيات العفيفة التي تروى عن النابغة، وقد انتقل من شعر إلى شعر، ومن بيت إلى بيت؛ وهي أبيات فيها حكم وليس فيها ما ينبو عن الخلق، أو الذوق، ولهذا أصدر عمر حكمه على النابغة بأنه أشعر شعرائهم، وهنا يشهد كعب، وهو أعلم أهل زمانه بالكتب السابقة، أن هذا البيت الحكيم قد ورد معناه في التوراة.

     والخيل من أدوات الحرب، ووسائل القوة فيها، والعناصر المهمة في اكتساب النصر إذا أذن الله، ولا غرو أن يهتم بها عمر، ومن احتفائه بالحرب، وما يمت إليها بصلة، لما عليه المسلمون من المرابطة والحرب، فإنه لا يدع فرصة تمر دون أن يستفيد منها، إذا وجد من يمكن أن يفيده عنها؛ وعمرو بن معدي كرب عرف بالشجاعة والإقدام، وإن كان يبدو أحياناً أنه يتزود فيما يقوله عن نفسه أكثر من الحقيقة، ولكنه لا يعدو الحدود المعروفة للشجاعة إلا بقليل مما يمكن ملاحظته، وقد وضعه عمر موضع الخبير أمامه في قصة تروى هكذا عن الخيل، أداة الحرب، ولعله أراد أن يتأكد من قول سليمان الباهلي:

     «قال عمر بن الخطاب لعمر بن معدي كرب:

     كيف معرفتك بعراب الخيل؟

     قال: معرفة الإنسان بنفسه، وأهله، وولده.

     فأمر بأفراس، فعرضت عليه.

     قال: قدموا إليها الماء في التراس (جمع ترس)، فما شرب ولم يَكْتِفْ فهو من العراب، وما ثنى سنبكه فليس منها»(8).

     ولعمر رضي الله عنه صلة بأداة حرب أخرى، شُهر بها عمرو بن معديكرب، وهي الصمصامة، سيفه المشهور، والقصة كما يلي:

     «بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن معديكرب أن يبعث إليه بسيفه، المعروف بالصمصامة، فبعث به إليه، فكلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه، فكتب إليه في ذلك، فرد عليه:

     إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث إليه بالساعد الذي يضرب به»(9).

     ولأن عمر يعتبر عمراً رجل حرب مجرب، وله معرفة بأمور الحرب، وفهم لأدواتها، والمواقف التي يُختار لها سلاح دون سلاح، فقد رغب أن يعرف منه تفصيلاً عن تلك الأدوات، ولهذا خاطبه بالقول الآتي:

     «قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معديكرب:

     أخبرني عن السلاح؟

     قال: سل عما شئت.

     قال: الرمح؟

     قال: أخوك، وربما خانك.

     قال: النبل؟

     قال: منايا تخطئ وتصيب.

     قال: الترس؟

     قال: ذلك المجن، وعليه تدور الدوائر.

     قال: الدرع؟

     قال: مشغلـة للراجل، متعبة للفارس، وإنها لحصن حصين.

     قال: السيف؟

     قال: قارعتك أمك على الثكل.

     قال: بل أمك.

     قال: أخبرني عن الحرب؟

     قال: مرة المذاق، إذا قلصت عن ساق، من صبر لها عُرف، ومن ضعف عنها تلف، وهي كما قال الشاعر:

الحـــرب أول ما تكون فتيـــة

تسعـى بـزينتـها لكل جهـــول

حتى إذا اشتعلت وشب ضِرامُها

عادت عجــوزاً غير ذات خليل

شمطاء جزَّت شعرها وتنكَّرت

مكروهـــة للشم والتقبيل»(10)

     لقد جمع عمرو لعمر حسنيين في هذا القول، لقد وصف له آلة الحرب كما يعرف، واحدة واحدة، ولقد أحسن الوصف، فأعطى الصفة الحسنة لكل واحدة، وأردفها بما قد يعتريها من نقص. أما الحسنى الثانية فأبيات الشعر التي ختم بها حديثه، والشعر العف، الذي يصف الحقيقة، المحتوي على حكمة هو من مطالب عمر، ومما يسعى إليه.

     وعمر النابه، سريع البديهة، لم تعجبه جلافة عمرو، عندما عبر بتعبير كان من الواجب عليه ألا ينطق به عندما يوجه الحديث للخليفة؛ وقد رد عليه عمر عند ما قال: «بل أمك»، ولم يكن يتوقع من عمر أن يسكت على خطأ فادح في المخاطبة مثل هذا، ولعل هذا من بقية الجاهلية عند عمرو، وبداوة عمرو، غفر الله له!

     وحبه رضي الله عنه للشعر، وهو ديوان العرب، يأخذه بعيداً في طلبه، ولابد أنه يجد فيه أخبارهم، وما حدث لهم في الجاهلية، مما يلون علاقتهم بعضهم مع بعض في الإسلام، ولابد للحاكم أن يعرف ما يكمن خلف الظواهر، ولا يتم له هذا إلا بمقابلة رجال البادية، وسماع قصصهم وأشعارهم، ولقد بلغ من اهتمامه بهذا الجانب ما ترويه هذه القصة من سعيه خلف الشعر:

     «قال الشعبي:

     كتب عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة، أن استنشد من قبلك من الشعراء ما قالوا في الجاهلية والإسلام.

     فأرسل إلى الأغلب العجلي، فقال: أنشدني:

     فقال:

أرجزاً تريد أم قصيدا        فقد سألت هيِّناً موجودا

     ثم أرسل إلى لبيد بن ربيعة، فقال: أنشدني:

     فقال: إن شئت أنشدتُكَ مما قد عُفي عنه من شعر الجاهلية؟

     قال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام.

     فانطلق إلى أديم، فكتب فيه سورة البقرة، فقال:

     أبدلني الله مكان الشعر هذا.

     قال: فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر:

     إنه لم يعرف أحد من الشعراء حق الإسلام إلا لبيدبن ربيعة، فأنقِص من عطاء الأغلب خمس مئة، واجعلها في عطاء لبيد.

     قال: فركب إليه الأغلب، فقال:

     تنقص من عطائي من أن أطعتك؟

     قال: فرد الخمس مئــة، وأقرَّ في عطاء لبيد الخمس مئة»(11).

     لقد هز موقف لبيد من الإسلام عمر، إذ هجر الشعر، وهو غال عنده، إلى سور القرآن، وهي زاد التقوى، وبضاعة الآخرة الرابحة، ولكن عمر نسي في حماسه أنه هو الذي شجع الأغلب أن يروي ما عنده، ومجرد طلب الخليفة يعتبر تشجيعاً ما بعده تشجيع، ولكن عمر غلبته طبيعته في إحقاق الحق، وإقرار العدل، إذ أنه بمجرد أن سمع احتجاج الأغلب المنطقي أذعن وأعاد إليه ما اقتطع منه، وأبقى للبيد منحته.

     ونعود مرةً أخرى إلى حبه للاستطلاع رضي الله عنه عما يخص أيام العرب، وحروبهم، وسرّ انتصار المنتصر منهم، والسبب الذي جعل النجاح في جانبهم، والخذلان في جانب مناوئيهم، وهو يعلم أن لدى المسؤول الجواب الشافي، وفي نص ورد عنه، وهو يسأل الحطيئة عن إحدى حروب قبيلته، يأتي النص هكذا:

     «قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحطيئة:

     كيف صبرتم على حرب بني ذبيان، وهي أضعافكم في العدد؟

     قال: كان فينا ألف حاز.

     قال: وكيف كا فيكم ألف حازم، وهل كان في عبس وغطفان هذا؟

     قال: كان فينا قيس بن زهير»(12).

     رجل واحد استطاع بحزمه أن يكسب قومه الحرب، رغم أن عددهم كان قليلاً، وعمر، وهو الحازم، يعرف ما يفعله الحزم بالناس، ولعل عمر سرَّ سرورًا عظيماً أن يسمع من الحطيئة أن الحزم يفعل هذا الفعل، ولابد أن هذا يزيده إصراراً على الحزم الذي اتخذه ديدناً له في حياته رضي الله عنه .

     وعمر بسؤاله المتَّصلين بأخبار العرب يريد أن يشيع الحكمة، وما ترمي إليه من هدف نبيل، فالأمثال تحمل الحكمة، والشعر يحملها مصاغة في قالبه الجذاب، ولا يتوقف اهتمام عمر عند هذا، ولكنه يتعداه إلى بقية الأمور التي يهتم بها العرب كالأنساب، فكان حريصاً على ألا يضيعها الناس أو يجهلوها، وهناك نصوص تدل على موالاته لهذا الأمر ومتابعته، وقد اتُخذ قدوة للحكام فيما بعد، واستقوا أقواله، وتبنوها، وطالبوا الناس بها، ومن ذلك القصة الآتية:

     «أوفد زياد ابنه عبيد الله على معاوية، فقال له:

     أتقرأ القرآن؟

     قال: نعم.

     قال: أفرضت الفرائض؟

     قال: نعم.

     قال: أرويت الشعر؟

     قال: لا.

     فكتب إلى زياد:

     بارك الله لك في ابنك، فقد وجدته كاملاً، فروّه الشعر، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول:

     ارووا الشعر، فإنه يدل على محاسن الأخلاق، وينفي مساوئها، وتعلموا الأنساب، فرب رحم مجهولة قد وصلت بعرفان النسب، وتعلموا من النجوم ما يدلكم على سبلكم في البر والبحر، ولا تجاوزوا»(13).

     هذا هو عمر في سعيه لأمته ونفعها، يريدهم أن يتعلموا الشعر الذي يدلهم على محاسن الأخلاق، ويبعد عنهم مساوئها، ويتعلموا الأنساب، لا لمفاخرة الجاهلية، ولكن ليصلوا أرحامهم، وهو باب واسع في الدين الإسلامي، يدخل منه الأجر والثواب، أحمالاً مثقلة، وأخشى ما كان يخشاه أن يؤدي الجهل بالنسب أن لا يعرف القريب قريبه، فيهمل حقه عليه، فيأثم دون أن يدري أن عليه إثماً كبيراً. وكأن عمر كان يخشى علينا ما وقع فيه الغربيون، من تنافر في القربى، وتباعد في صلة الرحم، وهجر لذلك.

     ثم يلتفت رضي الله عنه إلى النجوم، وما في معرفة مواقعها من فائدة لابن السبيل العابر من بلد إلى بلد، أو من قطر إلى قطر، برًّا كان ذلك أو بحرًا، فإنها الهادية بإذن الله لسائر الليل، يعرف بها مع وقته طريقه؛ ويعرف عمر رضي الله عنه أن في التعلق بها لغير ذلك ضلالاً، ويتيه الناس في خرافات تعطيها حق التصرف في الكون، والله هوالمتصرف وحده، وتوهم من تعلق بها، وادعى معرفة كنهها، أنها تعلمه ما سوف يحدث في المستقبل، وما علمه إلا عند الله وحده، وعمر عرف شيئًا من ذلك عند أهل الجاهلية، وخشي أن يعاد جَذَعَة في الإسلام، وقد أعيد في الزمن العباسي، وازدهر هذا العلم الخاسر، إلا أنه ما لبث أن خبا ضوؤه، وخفت صوته، وخفي في نهاية الأمر عن مقدم الفكر، وواجهة المجتمع.

*  *  *

الهوامش:

البصائر: 6/232.

الإشراف: 307.

المحاسن والمساوئ: 482، عيون الأخبار: 1/283.

بهجة المجالس: 2/468، راجع عيون الأخبار: 1/205 عن النص نفسه، مع بعض الاختلاف.

ربيع الأبرار: 4/394.

البصائر: 7/84.

الإشراف: 289.

العقد الفريد: 1/144.

العقد الفريد: 1/179، سرح العيون: 444.

بهجة المجالس: 2/469.

الإشراف: 109.

ربيع الأبرار: 3/147.

ربيع الأبرار: 4/267.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالحجة 1433 هـ = أكتوبر - نوفمبر 2012م ، العدد : 12 ، السنة : 36